الأميرة وحبّة الفول!

 

27183alsh3er

 

كانت أولى بداياتي في القراءة مع قصص الأطفال..
تلك التي كنت أجدها في المجلات وفي سلسلة الحكايات المحبوبة وأيضًا قصص الغابة الخضراء وغيرها..
لطالما اعتبرت أدب الأطفال عالمًا بحدّ ذاته، تلك القصص الفريدة التي تخبّئ بين سطورها معانٍ عدّة تتنوّع بين الطرافة والغرائب والحِكم،
تلك المعاني التي قد لا يُدرك فحواها إلا الأطفال وحدهم!
هذه القصص هي وسيلة اتّصال بين كاتبٍ لا زال يحمل بقلبه خيال طفل صغير، وبين جمهوره الذي سيبحر فيما يحتويه قلب ذلك الكاتب من خيال.. أطفال العالم!
قد لا يعي الأطفال في وقتها رسالة الكاتب بأكملها، لكنهم يكبرون ليدركوا كم طبعت تلك القصص من المعاني الخالدة بأذهانهم، وكم جسدت فيهم من الدروس والأفعال.

واحدة من القصص التي أثارت دهشتي في طفولتي قصة “الأميرة وحبّة الفول”،
لم تكن غرابة فكرتها التي أدهشتني بقدر جهلي بما تنطوي عليه القصة من مغزى!

تروي القصة حكاية الأمير الذي أراد أن يتزوج أميرةً حقيقية، وفي إحدى الليالي الماطرة طرقت باب القصر فتاة جميلة رثة الثياب تدّعي أنها أميرة من بلاد بعيدة وتطلب الحماية من المطر، أدخلتها الملكة والدة الأمير إلى القصر ولكنها كانت تشك في هويّة الأميرة المجهولة من ثيابها وهيئتها.
فخطرت في بالها فكرة للتأكد من صدق الزائرة. قامت بتجهيز فراش وثير وضعت عليه طبقات عدة من المفارش والمراتب المريحة لكنها أخفت بين المرتبة الأخيرة والسرير حبة فول صغيرة.
وفي صباح اليوم التالي سألت الملكة الزائرة عن ليلتها فأجابت بأنها لم تتمكن من النوم وظلت تتقلب طيلة الوقت على السرير دون فائدة.. فأدركت الملكة صدق الأميرة وعلمت أنها الزوجة المناسبة والمنتظرة لابنها الأمير لأن الأميرة الحقيقية ستتحسس من أصغر الأشياء ولو كانت حبّة فول صغيرة!

في تلك السن الصغيرة لم أتمكن من فهم أي مغزى للقصة، خلاف العديد من القصص العالمية للأطفال كالأميرة والضفدع على سبيل المثال لم تحتو هذه القصة على درس واحد للأطفال أو أي أمر يمكن أن تعدّه كفائدة ترتبط بالقصّة!
استفزّتني القصة كثيرًا في حينها، حتّى أنني ظننت أن هناك أجزاء مفقودة أو صفحات ناقصة لم تتم كتابتها. وأظنني سلّمت بذلك أخيرًا لأواسي نفسي!

الآن وقد كبرت عاودت التفكير في تلك القصة مجددًا، علمتُ أن القصة لم تكن ناقصة أو محرفة أو أي شيء من ذلك، بل كانت كما هي قصّة عالمية تهدف إلى وصف مدى رقّة الأميرة وحساسيّتها لتميّزها بذلك عن باقي الفتيات.

أدركت أن هذا المعنى في حقيقة الأمر يغطّي على الكثير من المعاني المؤسفة في القصة..
فكي تكون الأميرة “حقيقية” عليها أن تتصف بتلك الحساسية التي تدلّ على غرقها في البذخ اللا معقول ..
لأن هذا فقط ما يميّزها عن بقية عوامّ الشعب، الرّقة المطلوبة للجهل بأبسط أشكال المعاناة اليوميّة
هذه الطبقيّة في القصة ألغت كلّ الصّفات النبيلة التي ينبغي أن تتصفّ بها الأميرة الحقيقيّة لتقتصر على التّرف فقط!

كاتب القصّة هو هانس أندرسن، المشهور بحكاياته الخيالية وحكايات الأطفال على وجه الخصوص..
ذكر أندرسن مرة أنه يخفي في قصصه من المعاني التي قد لا تبدو ظاهرة أوّل مرة، فما كان يا ترى يخفي في قصّته الغريبة هذه؟
اطّلعت على مجموعة من أعمال هذا الكاتب الفذ، فعلمت أن من ضمنها القصّة المشهورة عالميًا : بائعة الكبريت!
وهنا لنا أن نرى وجها التناقض في مأساة تكاد تكون واحدة..
بين الفقر المّعدم إلى حد الموت جوعًا وبردًا، وبين التّرف الفاحش إلى حد انعدام رؤية العالم!

هل كان أندرسن أثناء كتابته لقصته يلعن في سرّه تلك الطبقات التي تفصلنا عمّا يجعل منا بشرًا نتشارك معًا هموم حياةٍ واحدة؟
أظنني قد عرفتُ أخيرًا الدّرس الذي تنطوي عليه قصّة الأميرة وحبّة الفول..

لتكوني أميرةً حقيقيةً يا صغيرتي يجدر بكِ أن تكوني عمياء!